سورة الممتحنة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} بيانٌ لحكمِ من يُظهرُ الإيمانَ بعدَ بيانِ حُكم فريقي الكافرينِ {إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات} من بينِ الكفارِ {فامتحنوهن} فاختبروهُنَّ بما يغلبُ على ظَنِّكم موافقة قلوبهنَّ للسانِهنَّ في الإيمانِ. يُروى أنَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ للتي يمتحنُهَا بالله الذي لا إلَه إلا هُو ما خرجتِ من بغضِ زوجٍ بالله ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرضٍ بالله ما خرجتِ التماسَ دُنيا بالله ما خرجتِ إلا حباً لله ورسولِه {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} لأنَّه المطلعُ على ما في قلوبهنَّ والجملةُ اعتراضٌ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعدَ الامتحانِ {مؤمنات} علماً يمكنكم تحصيلُه وتبلغُه طاقتُكم بعد اللَّتيا وَالتى من الاستدلال بالعلائمِ والدلائلِ والاستشهادِ بالأماراتِ والمخايلِ وهو الظنُّ الغالبُ، وتسميتُه علماً للإيذانِ بأنه جارٍ مجرى العلمِ في وجوبِ العملِ به {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي إلى أزواجِهِنَّ الكفرةِ لقولهِ تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنَّه تعليلٌ للنهي عن رجعهنَّ إليهمِ، والتكريرُ إما لتأكيدِ الحرمةِ أو لأنَّ الأولَ لبيانِ زوالِ النكاحِ الأولِ والثانيَ لبيانِ امتناعِ النِّكاحِ الجديدِ {وَأَتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} أي وأعطُوا أزواجهنَّ مثلَ ما دفعُوا إليهنَّ من المهورِ وذلكَ أنَّ صلحَ الحديبيةِ كانَ على أنَّ من جاءَنا منكُم رددناهُ فجاءتْ سُبيعةُ بنتُ الحارثِ الأسلمية مسلمة والنبي عليه الصلاة والسلام بالحديبية فأقبل زوجها مسافرٌ المخزوميُّ وقيلَ صيفيُّ بنُ الراهبِ فقال يا محمدُ ارددْ عليَّ امرأتِي فإنكَ قد شرطتَ أن تردَّ علينا من أتاكَ منا فنزلتْ لبيانِ أن الشرطَ إنما كانَ في الرجالِ دُونَ النساءِ فاستحلفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلفتْ فأَعطى زوجَها ما أنفقَ وتزوجَها عمرُ رضيَ الله عنهُ.
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ} فإنَّ إسلامَهُنَّ حالَ بينهنَّ وبينَ أزواجهنَّ الكفارِ {إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} شُرطَ إيتاءُ المهرِ في نكاحهنَّ إيذاناً بأنَّ ما أُعطَى أزواجُهُنَّ لا يقومُ مقامَ المَهْرِ {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} جمعُ عصمةٍ وهي ما يُعتصم به من عقدٍ وسببٍ أيْ لا يكُنْ بينكُم وبينَ المشركاتِ عصمةٌ ولا عُلقةٌ زوجيةٌ قال ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: من كانتْ له امرأةٌ كافرةٌ بمكةَ فلا يعتدنَّ بها من نسائِهِ لأنَّ اختلافَ الدارينِ قطعَ عصمتَها منْهُ وعنِ النخعيِّ رحمه الله هيَ المسلمةُ تلحقُ بدارِ الحربِ فتكفُرُ وعن مجاهدٍ أمرهُم بطلاقِ الباقياتِ مع الكفارِ ومفارقتِهِنَّ، وقرئ: {ولا تُمسّكوا} بالتشديد {ولا تَمسّكوا} بحذف إحدى التاءين من تتمسكوا {وَسْئَلُواْ مَّآ أَنفَقْتُمْ} من مهورِ نسائِكم اللاحقاتِ بالكُفَّارِ {وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} من مهورِ أزواجهنَّ المهاجراتِ {ذلكم} الذي ذُكِرَ {حُكْمُ الله} وقولُه تعالَى {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ أو حالٌ من حكمِ الله على حذفِ الضميرِ أي يحكمُه الله أو جعلَ الحكمَ حاكماً على المبالغةِ {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرعُ ما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ.
رُويَ أنَّه لما نزلتْ الآيةُ أدَّى المؤمنونَ ما أُمروا بهِ من مهورِ المهاجراتِ إلى أزواجهنَّ المشركينَ وأبى المشركونَ أنْ يؤدُوا شيئاً من مهورِ الكوافرِ إلى أزواجِهنَّ المسلمينَ، فنزلَ قولُه تعالى {وَإِن فَاتَكُمْ} أي سبقكُم وانفلتَ منكُم {شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} أي أحدٌ من أزواجِكم وقد قرئ كذلكَ وإيقاعُ شيءٌ موقعَهُ للتحقيرِ والإشباعِ في التعميمِ أو شيءٌ من مهورِ أزواجِكم {فعاقبتم} أي فجاءتُ عقبتُكم أي نوبتُكم من أداءِ المهرِ شبه ما حكم به على المسلمينَ والكافرينَ من أداءِ مهورِ نساءِ أولئكَ تارةً وأداءِ أولئكَ مهورَ نساءِ هؤلاءِ أُخرى بأمرٍ يتعاقبونَ فيهِ كما يتعاقبُ في الركوبِ وغيرِه {فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من مهرِ المهاجرةِ التي تزوجتُموها ولا تؤتوهُ زوجَها الكافرَ، وقيلَ معناهُ إنْ فاتكم فأصبتُم من الكفارِ عُقْبى هيَ الغنيمةُ فآتُوا بدلَ الفائتِ من الغنيمةِ. وقرئ: {فأعقبتُم} و{فعقَّبْتُم} بالتشديدِ و{فعقِبْتُم} بالتخفيفِ وفتحِ القافِ وبكسرِهَا. قيلَ جميعُ منْ لحقَ بالمشركينَ من نساءِ المؤمنينَ المهاجرينَ ستُّ نسوةٍ أمُّ الحكمِ بنتُ أبي سفيانَ وفاطمةُ بنتُ أميةٍ وبَرْوعُ بنتُ عُقْبةٍ وعبدةُ بنتُ عبدِ العُزَّى وهندُ بنتُ أبي جهلٍ وكلثومٌ بنتُ جرولٍ {واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمانَ بهِ تعالى يقتضِي التَّقوى منهُ تعالَى.


{يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعاتٍ لكَ أيْ قاصداتٍ للمبايعةِ نزلتْ يومَ الفتحِ فإنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ شرعَ في بيعة النساءِ {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} أي شيئاً من الأشياءِ أو شيئاً من الإشراكِ {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} أُريدَ به وأدُ البناتِ وقرئ: {ولا يُقَتِّلْنَ} بالتشديدِ {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} كانتِ المرأةُ تلتقطُ المولودَ فتقولُ لزوجِها هُو ولدي منكَ كُنِيَ عنْهُ بالبهتانِ المُفترى بينَ يديها ورجلَيها لأنَّ بطنَها الذي تحملُهُ فيهِ بينَ يديها وَمَخرجُه بينَ رِجْلَيْها.
{وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} أي فيما تأمرهنَّ بهِ من معروفٍ وتنهاهنَّ عنْهُ من منكرٍ، والتقييدُ بالمعروفِ مع أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم لا يأمرُ إلا بهِ التنبيهُ على أنَّه لا يجوزُ طاعةُ مخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ وتخصيصُ الأمورِ المعدودةِ بالذكرِ في حَقِّهنَّ لكثرةِ وقوعِها فيمَا بينهنَّ معَ اختصاصِ بعضها بهنَّ {فَبَايِعْهُنَّ} أي على ما ذُكرَ وما لم يُذكرْ لوضوحِ أمرِهِ وظهورِ أصالتِهِ في المبايعةِ من الصلاةِ والزكاةِ وسائرِ أركانَ الدِّينِ وشعائرِ الإسلامِ، وتقييد مبايعتهنَّ بِما ذُكِرَ من مجيئهنَّ لحثهنَّ على المسارعةِ إليها مع كمالِ الرغبةِ فيهَا من غيرِ دعوةٍ لهنَّ إليها {واستغفر لَهُنَّ الله} زيادةٍ على ما في ضمنِ المبايعةِ فإنها عبارةٌ عن ضمانِ الثوابِ من قبلِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمقابلةِ الوفاءِ بالأمورِ المذكورةِ من قبلهنَّ {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغٌ في المغفرةِ والرحمةِ فيغفرُ لهنَّ ويرحمهنَّ إذا وفَّينَ بما بايعنَ عليهِ. واختلفَ في كيفيةِ مبايعتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهن يومئذٍ فَرُوِيَ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ جلسَ على الصَّفا ومعه عمرُ رضيَ الله عنْهُ أسفلَ منْهُ فجعلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يشترطُ عليهن البيعةَ وعمرُ يصافحهنَّ. ورُوِيَ أنَّه كلفَ امرأةٍ وقفتْ على الصَّفا فبايعتهنَّ. وقيلَ دَعا بقدحٍ من ماءٍ فغمسَ فيهِ يدَهُ ثم غمسنَ أيديهنَّ. ورُويَ أنه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بايعهنَّ وبين يديهِ وأيديهِنَّ ثوبٌ قطريٌّ، والأظهرُ الأشهرُ ما قالتْ عائشةُ رضيَ الله عنها والله ما أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على النساءِ قطُّ إلا بما أمرَ الله تعالَى وما مستْ كفُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأةٍ قَط وكانَ يقولُ إذا أخذَ عليهنَّ قَدْ بايعتكنَّ، كلاماً، وكانَ المؤمناتُ إذَا هاجرنَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهنَّ بقولِ الله عزَّ وجلَّ: {يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات} إلى آخرِ الآيةِ فإذا أقررنَ بذلكَ من قولِهِنَّ قالَ لهنَّ انطلقنَ فقد بايعتكُنَّ.


{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} هُم عامةُ الكفرةِ، وقيلَ اليهودُ، لما رُوِيَ أنَّها نزلتْ في بعضِ فقراءِ المسلمينَ كانُوا يواصلونَ اليهودَ ليصيبُوا من ثمارِهِم.
{قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة} لكفرِهِم بهَا أو لعلمِهِم بأنَّه لا خلاقَ لهُمْ فيهَا لعنادِهِم الرسولَ المنعوتَ في التوراةِ المؤيدِ بالآياتِ {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور} أيْ كَما يئسَ منها الذينَ ماتُوا منهُم لأنَّهم وقفُوا على حقيقةِ الحالِ وشاهدُوا حرمانَهُم من نعيمِهَا المقيمِ وابتلاءَهُم بعذابِهَا الأليمِ والمرادُ وصفهُم بكمالِ اليأسِ منهَا، وقيلَ المَعْنَى كما يئسُوا من موتاهُم أنْ يُبعثوا ويرجعُوا إلى الدُّنيا أحياءً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ يأسهم.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ سورةَ الممتحنةِ كانَ لهُ المؤمنونَ والمؤمناتُ شفعاءَ يومَ القيامةِ».

1 | 2